أنقاض السوريين في المزاد المخفي
أنقاض السوريين في المزاد المخفي
اعتاد عرب الجاهلية في مطلع قصائدهم التغني بالوقوف على الأطلال. بل ورفعوا مقامها لتصبح طقساً مقدساً لابتداء قصائدهم على تنوع أهدافها من غزل أو هجاء. هذه الظاهرة التي أثبتت ارتباط الإنسان المترحل بداره المهجورة ومتاعه المتواضع، لا تقتصر على فيزياء المكان فقط، بل على ما يحمله من ذكريات جميلة هاربة بلا عودة، وقصص دافئة مختبئة في المتروك قسراً. وفي ثقل هذا التنقل، تكمن مقاربة ما نعيشه اليوم. إذ يمكن لكثير من سوريي الشتات الذين أجبروا على ترك بيوتهم بحثاً عن ملجأ آمن لحياتهم أن يلمسوا هذه المشاعر بشكل واضح، ويرسموا طقساً جديداً للوقوف على أطلال يعجزون عن رؤيتها. فلا يكف سوريّو المنفى، في اجتماعاتهم وأحاديثهم الجانبية وحتى في صمتهم، عن محاولة إعادة بناء أطلالهم في ذكرياتهم المثقوبة، واستحضار أرواح سكانها وترتيب حجارتها كما لو كانت مأهولة.
تساؤلات مطروحة اليوم عن مصير ملايين الأطنان من الأنقاض الشاهدة على الدمار الذي تعرضت له البلاد. والحقيقة الصعبة هي أن معظم السوريين الذين هجروا بيوتهم لا يملكون خيار العودة لتفقد ما تركوه. والأصعب من ذلك مشاهدة جهات محلية ودولية تفاوض لشراء هذه الأطلال «الأنقاض»، لما تنطوي عليه من ربح مادي. وتعود ملكية هذه الأنقاض قانونياً إلى صاحب العقار، كما تعود له مسؤولية ترحيل هذه الأنقاض أو التصرف بها. فكيف يتم بيع هذه البيوت المدمرة؟ ومن المسؤول عن هذه العمليات؟ وما أثرها في عملية إعادة الإعمار؟ والأهم من ذلك كله: أين هم السوريون من عملية بيع أنقاض بيوتهم؟
ومما لا شك فيه أن بيع الأنقاض بغرض إعادة تدويرها عملية ضرورية لها فوائد بيئية واقتصادية واجتماعية، وموصى بها عالمياً من قبل برامج عدة، كبرنامج الأمم المتحدة لإدارة النفايات الصلبة على سبيل المثال لا الحصر. والمغري في هذا الجزء من إعادة الإعمار بالنسبة للشركات هو الجدوى الاقتصادية العالية، والتي لا تتطلب بالضرورة انتهاء الصراع للبدء فيها. بالإضافة إلى تضخم الأسعار الهائل الذي شهدته سوق مواد البناء في سوريا نتيجة صعوبة الاستيراد وصعوبة عمليات النقل. لكن لا بدّ من التساؤل حول كيفية إتمام هذه العمليات في سوريا ومدى شفافيتها.
شاركت أكثر من 40 شركة محلية في مؤتمر إعادة الإعمار الذي جرى في مدينة حمص عام 2014، والذي هدف إلى تطوير المخطط التنظيمي الجديد لبابا عمرو، الشاغل لمساحة 217 هكتاراً، ويضم 465 مقسماً سكنياً. شركات كثيرة منها LG، وهيلتي سورية، وIB، تنافست على نيل حصتها من “الوليمة” بحسب تعبير أيمن الشوفي. وانطلقت بعدها وعود كثيرة تناولت السرعة في تنفيذ عمليات الترحيل من قبل شركات حكومية، على أن تقوم كل شركة بترحيل ما يقارب 50 ألف متر مكعب خلال 100 يوم. غير أنها بقيت وعوداً حالمة ساعدت برسم فقاعة كبيرة للمستثمرين حول جدية الجهات الرسمية.
عملية إعادة تدوير الأنقاض شملت أيضاَ الوسط التجاري للمدينة القديمة، والذي تم بالاتفاق مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عبر تقديم منحة قيمتها 105 ملايين ليرة لغرفة التجارة للمرحلة الأولى، التي شملت ترحيل 70 ألف متر مكعب بالتعاون مع القطاع الخاص في 2015. أخفقت معظم الوعود بسرعة العمل في تحقيق مرادها، وتناقصت شهية الشركات المتنافسة سابقاً على هذه المشاريع، خاصة مع تناقص التمويل والتفاف الجهات الحكومية وطرح عروض تعهدات موجهة إلى القطاع الخاص، تشمل القيام بعملية الترحيل وإعادة التدوير للأنقاض بشكل كامل، مع ترك الخيار للحكومة بشراء هذه الأنقاض من جديد بعد إعادة تدويرها. ومع فقدان هذه الشهية لجأت الحكومة إلى تشجيع العمل التطوعي لمبادرات المجتمع “الأهلي” في حمص بهدف الاستمرار في ترحيل الأنقاض من المناطق السكنية بالتعاون مع مديرية النظافة في حمص.
ويشار هنا إلى أن كمية الأنقاض في مدينة حمص قُدرت في عام 2014 بمليون و300 ألف متر مكعب، تم ترحيل 500 ألف متر مكعب منها عام 2017 من قبل متعهدي القطاع الخاص. في الوقت ذاته، وعلى الطرف الآخر من مناطق الصراع، كان قاطنو ريف حمص الشمالي ينظمون عمليات بيع الأنقاض بشكل ذاتي، بحسب تقرير مي الحمصي، من خلال إعادة تدوير الأنقاض باستعمال كسارات بدائية محلية وعن طريق الفرز اليدوي، نظراً لارتفاع سعر مواد البناء وعدم توفرها في المناطق المحاصرة. وقد بقيت هذه العمليات مقتصرة على كميات محدودة من الأنقاض لضعف الإمكانات، لكنها في الوقت ذاته تؤمن ربحاً لأصحاب الكسارات لمحدودية توافرها في هذه المناطق.
أما دمشق فقد شهدت في العام الجاري عدة مؤتمرات وملتقيات حول إعادة الإعمار وفرص الاستثمار، تطرّقت كلها بشكل أو بآخر لمواضيع إعادة تدوير الأنقاض وسبل الاستثمار فيها، مع محاولات مستمرة لجذب الاستثمارات في هذه المجال من قبل شركات خاصة عالمية ومحلية. كما شهدت هذه المؤتمرات وجوداً متردداً للشركات الأوروبية بشكل غير مباشر عبر ممثلين محليين، بالإضافة إلى شركات روسية وصينية وإيرانية، مع غياب أي إشارة لحقوق السكان في الأنقاض.
ويتم التعامل مع مشاريع إعادة الإعمار في العاصمة بشكلٍ مختلف نسبياً. فبحسب جريدة السفير، سمحت الجهات الرسمية للشركات الخاصة، منها شركة إعمار سورية، التابعة لشركة إعمار العقارية في دبي، بتقديم عروض شراء للمنازل وأنقاضها، بالإضافة إلى المساكن العشوائية، التي وافق أصحابها على بيعها بعد إصدار المرسوم 66، الذي نص على “إعادة تطوير مناطق السكن غير المصرح بها والمستوطنات العشوائية”، وذلك خوفاً من خسارتها للدولة بلا مقابل، كما حصل في حي بساتين الرازي وحي التضامن وداريا. وضمنت العروض الربح الخالص لهذه الشركات من خلال إعادة تدوير الأنقاض أولاً، ومن ثم الاستفادة من قيم هذه العقارات ثانياً، ضمن السوق المتضخمة في سوريا.
الخطير في هذا الموضوع إذا ما تمّ تعميم طرح أسلوب منح هذه الامتيازات للشركات في باقي المدن السورية كحمص وحلب، خاصة بعد وصول الجهات الرسمية إلى حلول مسدودة الأفق في تشجيع المستثمرين على المضي في ترحيل الأنقاض بعد انتشار أحاديث متكررة عن سرقات لمواد معينة من الأنقاض في مناطق مختلفة في دمشق ومدن أخرى، وإعادة بيعها في سوق مواد البناء من جديد. ما أدى لتحويل هذه الأنقاض الغنية بمواد من الممكن إعادة استخدامها في صناعات مختلفة وتعود بربح ومردود مادي جيد، إلى مجرد نفايات أبنية تكلفة تدويرها أعلى من قيمتها، وهو السبب الرئيس في تراجع العديد من المستثمرين عن شرائها، بحجة أنه “راح خيرها” كما يقال بالعامية.
في حلب، المدينة التي نالت الحصة الأكبر من الضرر، منع استمرار المعارك فيها حتى وقت قريب أي حديث عن الأنقاض. لكن مع بداية 2017، تصدّرت المدينة أولويات ترحيل الأنقاض، حيث تم ترحيل 1,436,000 متر مكعب من الأنقاض من مختلف الأحياء حتى منتصف العام الجاري. ورصدت لجنة إعادة الإعمار بحسب مصادر رسمية أكثر من مليار ليرة سورية لمشروع ترحيل الأنقاض وتأهيل الشوارع في عدد من أحياء مدينة حلب. لكن وبحسب تقرير لمجلة عنب بلدي، فإن الحكومة السورية تقوم بمطالبة التجار ضمن المدينة القديمة بتحمل تكلفة ترحيل الأنقاض أو حتى فصلها وإعادة استخدامها. بل تعدى الأمر لما هو أكثر من ذلك، فهي تطالبهم بعدم المطالبة بما دفعوه في وقت لاحق. وقد يكون السبب في ذلك هو خصوصية هذه الأنقاض، وارتفاع كلفة تدويرها وعملية فصلها، إذ يجب أن تتم ضمن معايير محددة تتعلق بحماية الآثار. وكانت محافظة حلب قد أعلنت عن توقيع عشرة عقود بقيمة 975 مليون ليرة سورية لترحيل الأنقاض، مما أثار حفيظة التجار، أمر يفسره البعض برغبة الحكومة بتشكيل فقاعة لتشجيع الاستثمار الذي خف الحديث عنه نتيجة عدم الاستقرار الأمني في جميع المدن، على غرار دمشق وقبلها حمص.
كما تلجأ الجهات الرسمية من ناحية أخرى إلى توجيه الأكاديميين لإبراز أهمية إعادة التدوير. حيث أعلن موقع رسمي عن مشروع بهذا الخصوص في حلب أيضاً يحمل اسم «المشروع الوطني لتدوير وإعادة استخدام أنقاض الأبنية والبنى التحتية»، بمبادرة من جامعة حلب. يعمل المشروع على الترويج لإعادة تدوير الأنقاض على مستويات مختلفة تبدأ بالحي وتنتهي بالمدينة والمحافظة، ويحدد أولويات العمل والتدخل وفق مراحل متتالية لمعالجة ما يقارب 50 مليون متر مكعب من الأنقاض. لم يتعدّ المشروع حتى الآن نطاق البحث العلمي الأكاديمي، وسيخرج بتوصيات توضع على رفوف المكتبات الأكاديمية في الغالب.
بالتزامن مع هذه الأحداث ولإعادة الإعمار، رصدت الحكومة السورية في ميزانيتها للأعوام السابقة مبالغ مختلفة بلغت 50 مليار ليرة سورية في عام 2011، و50 مليار ليرة سورية في عام 2014، و30 مليار ليرة سورية في عام 2013، بالإضافة إلى 147 مليار ليرة سورية في ميزانية 2017. وتعتبر هذه الميزانية بعيدة عن توقعات كلفة إعادة الإعمار المقدرة من قبل منظمة الإسكوا لعام 2015 بـ 200 مليار دولار أميركي، أي 400 ضعف الميزانية المقدرة من الحكومة السورية. مما يؤكد بالضرورة عجز الحكومة عن تغطية الكلف لوحدها، وحاجتها لتدخل القطاع الخاص والمستثمرين في عملية إعادة الإعمار. الأمر الذي يعطي هذا القطاع أفضلية في صياغة شروط هذه الاستثمارات وإعادة بناء المدن وفق منظوره، والذي يرتكز في كثير من الحالات على مفهوم الربح المادي. وإن كان الخطاب الرسمي يؤكد على أن عمليات إعادة الإعمار ستكون عملية سورية بحتة من حيث التخطيط والتنفيذ والإشراف، إلا إن الأحاديث خلف الأبواب المغلقة تتجه نحو اقتراح تسهيلات لشركات عقارية يملكها سوريوّ الخليج، بالإضافة إلى شركات إيرانية كشركة «إيران بون»، التي كانت المسؤولة عن تشييد مبنى السفارة الإيرانية في أتوستراد المزة.
أخيراً، وأخذاً بافتراض مجلة فورين أفيرز الأميركية التي تحدثت عن احتمالية تطبيق خطة مارشال في سياق سوري جديد ولاعبين جدد، قد تشهد السوق السورية غزواً لشركات الاستثمار الصينية والروسية، التي تهتم بالربح المادي والتخطيط النيوليبرالي بعيداً عن ثقافة وهوية وصورة المدن السورية. عندها، سيتم وضع مخططات إعادة إعمار متبعة أسلوب الـ«Dubaification»، وهو ما يعني تحويل المدينة إلى نموذج مثيل لمدينة دبي، والذي يحقق لهذه الشركات الربح المرجو، يمحي بيوت السوريين القديمة والحديثة منها، المبنية وفق عادات وتقاليد أسقطت ثقلها على مخططاتهم وأبنيتهم لعقود، ليعود السوريون يوماً ما من ترحالهم حول العالم آملين بالوقوف على أطلال ديارهم، ليجدوا داراً لا تشبههم. فقد بيعت أطلالها في المزاد المخفي، وسيباع ما تبقى منها في مزاد آخر بعد تحولها لعبء وإزالتها بهدف البدء في عمليات إعادة الإعمار. أما المستفيد الأول والأخير في المزاديْن فهو القطاع الخاص، والخاسرون هم السوريون وحدهم.. لا غير.
نشرت هذه المقالة في موقع النبض بتاريخ ٨.٣١. ٢٠١٧